الشعر عند العرب في جاهليتهم وبعد الإسلام ، عنوان بلاغتهم وميزان عقلياتها ، ومرجع لآدابها وقاموس للغتها ولسانها الفصيح ، وما يعتلج في نفوسها من مؤثرات خارجية ، كالمصائب والموت والحياة والحاجة والفخر والحماسة والبغض ، والحب والكرم والبخل ...الخ .
وكان العرب منذ القدم يولون الشعر عنايتهم التامة ويلقنونه لأبنائهم منذ الصغر ، ويعلمونهم للمستقبل .
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : علمّوا أولادكم الشعر فإنه أعذب لألسنتهم .
والشعر العربي ينقسم إلى قسمين الأول الشعر الفصيح الخاضع للنحو والعروض ، والشعر العامي ( الشعبي ) الذي يقال في كل منطقة تبعاً للهجتها ، ومن الشعر الشعبي الشعر النبطي الذي هو موضوع حديثنا ، هذا النوع من الشعر متجرد من قيود النحو لعدم رضوخه لقيود النحاة مع احتفاظه بمعانيه وألفاظه واصطلاحاته واوزانه .
وربما شعراء هذا القسم يلحنون فيه ألحاناً بسيطة ، ثم يغنون به ويسمى الغناء به عند أهل الشام بالحوراني نسبة إلى حوران والهيجنة عند أهل نجد وبوادي الجزيرة العربية ، ويعرفون البيت إذا كان موزوناً أم لا بالهيجنة ، فإذا غنوا بهذه الطريقة ولم يستقم فهو غير موزون وإن استقام فهو موزون .
يقول ابن خلدون في مقدمته : إذا كان الشعر البدوي مستقيماً ومحتفظاً بأوزانه فلا قيمة لحركات النحاة لأن الكلام يعرف بالقرائن ولا عبرة في الرفع والنصب .
ومعظم هذا النوع من الشعر راضخ للقافية مرتين في البيت الواحد إلى آخر القصيدة مثل :
سحرٍ كتب في حبر عينه بالأوراق
خديه صادينٍ ونونين مـن فـوق
كن العرق بخدودها حصٍ أرنـاق
نثر على صفحات بلورة شـروق
تمشي برفقٍ خايفه مدمـج السـاق
يفصم حجولٍ ضمها الثقل من فوق
إلى صفت لك ساعتن وأنت مشتاق
فاقطف ثمر مالاق والعمر ملحوق
وهذا الرضوخ ليس ضرورياً إذا أراد الشاعر أن يكتب بقافية واحدة مثل :
سافرت خمسين عام من الزمان
هي عمر والا على هامش زمان
هي حقيقة علم والا هي سـراب
هي ربيع الدهر والا هي حنان
ويوجد صنف آخر يلتزمون فيه قافية واحدة في الشطر الرابع إلى آخر القصيدة :
رديت راسي عقب ماني معيي
قلن دعونا له لا جـا نحيـي
قالن حيه قلت حـي المحيـي
قالن علامك تلفت قلت مشطون
أما سبب التسمية بالنبطي فإنها على ما يبدو لم تحدث إلاّ قبل ستمائة عام تقريباً بدليل أن (ابن خلدون) في كلامه عن هذا الشعر وتبسيطه لم يذكر هذه التسمية مطلقاً ، وقد قيل أنها منسوبة إلى جيل نزلوا بالبطائح يعرفون بالأنباط ويعرف كلامهم بهم مثل فلان نبط أي تكلم أو قال شعراً .
كما أن كلمة نبط في اللغة تعني نبع كأن تقول نبط الماء أي نبع الماء وقد كان يقال للشخص الريفي أو البدوي من خارج المدينة بالنبطي وقد مر الشعر النبطي بمراحل متعددة هي أشبه بالمراحل التي مرّ بها الشعر العربي الفصيح .
اختلفت آراء الباحثين والمؤلفين والشعراء في تسميته فمنهم من يطلق عليه الشعر النبطي نسبة إلى الأنباط , ومنهم من يطلق عليه الشعر البدوي وأسماه بعضهم الشعر العامي وآخرون يطلقون عليه الشعبي ولم تستقر المواضعه على تسميته بعد .
تاريخه ونشأته
بداية لا بد أن نعرف أن الشعر الشعبي لم ظهر إلا بعد أن فسدت اللغة العربية ودخلها اللحن والتحريف , فانتشرت العامية انتشارا واسعا وابتعد الناس عن الفصحى .
والشعر الشعبي وافد إلى البادية ودخيل عليها كما أنه دخيل على الحاضرة .
واسم هذا النوع من الشعر عند أهل نجد يدل على أنه قد أتاهم من العراق أو من مشارف الشام فهم يدعونه بالنبطي وكانوا يطلقون اسم الأنباط على فلاحي سواد العراق , وبدو مشارف الشام , لأن التحريف لحق اللغة العربية هناك قبل الجزيرة العربية .
ولا أحد يعرف متى بدأ ونشأ هذا الشعر الشعبي ولكنه قديم النشأة , ولو غابت النصوص القديمة فإن هذا الشعر الشعبي المعاصر ما هو إلا امتداد لذلك الشعر القديم .
والشعر الشعبي القديم لا نشك في أنه لم يأتي دفعة واحدة ....
ولكن أقدم من تحدث عن الشعر البدوي هو المؤرخ العربي المسلم (ابن خلدون) المتوفي عام (808 هـ) فقد أورد عدة نصوص شعرية في مقدمتة نسب بعضها إلى شعراء بني هلال وكان ذلك خلال القرن الثامن الهجري .
وأقدم نص يروونه من الشعر النبطي على لسان (عليا) حبيبة (أبي زيد الهلالي) في القرن السابع الهجري , أرسلته إليه وهو في بلاد المغرب يقاتل البربر ومنه :
تقول فتاة الحـي عليـا مثايـل
ولا قايل مثلها في الحـي قايـل
يالله أن تهيي لي طروش لجلهم
يسيرون ما بين الصخر والقوايل
كذلك من أقدم القصائد والمشابهة لشعر بني هلال , قصائد تنسب للشاعر (جعيثن اليزيدي) في القرن التاسع .
هذه الأشعار والقصائد التي وردت في مقدمة (ابن خلدون) لا تختلف عما هي عليه أشعار عمالقة الشعر الشعبي المعروفيين .
وقد أصيب الشعر الشعبي القديم بما أصيب سلفه الشعر الجاهلي الفصيح من انتشار الأمية بين الناس واعتمادهم على الرواية والحفظ والذاكرة , كما أن أدباء الحاضرة كانوا يستهجنونه فضاع منه الشيء الكثير بل الأكثر . ولولا ما دون منه في السنوات الأخيرة لضاع كله .
ولم يصل إلينا من أشعار القرون الوسطى إلاّ النزر اليسير وأقدم من دونت أشعارهم (راشد الخلاوي) , و(ابو حمزة العامري) من اهل الأحساء و(قطن بن قطن) من عُمان , و(رميزان) , و(جبر بن سيار) من أهل سدير , وقد عاش هولاء في القرنين العاشر والحادي عشر الهجري .
وكانوا ينظمون الشعر الشعبي على أوزان الشعر العربي الفصيح وتفاعيله وبحوره ولا يقيمون الإعراب لفساد اللغة .
إلى أن جاء الشاعر المشهور (محسن الهزاني) من أمراء الحريق , فجدد في الشعر الشعبي وأدخل الأوزان المسماة ( السامري ) ذات القافيتين , لكل شطر قافية حتى آخر القصيدة .
ثم تلاه بعد ذلك (ابن لعبون) فنسخ على منواله وكان أكثر اطلاعا على الأدب الفصيح .
ثم نبغ شعراء كثر من أمثال (عبدالله الفرج) و(ابن ربيعة) و(محمد القاضي) و(نمر بن عدوان) و(مشعان بن هذال) و(حمود البدر) و(محمد العوني) و(ركان بن حثلين) و(ابن سبيل) و(ابن جعيثن) وغيرهم ...
ثم تطور الشعر الشعبي وانتشر انتشارا واسعا واقبل عليه الناس , وكثر الشعراء , وتعددت أساليب أشعارهم , وأدخلوا على الشعر الكثير من التجديد والابتكارات , والبديع والمحسنات , والتزويقات والتي لا اكون مبالغا إذا قلت أنها أفقدت الشعر النبطي بساطته وسلاسته وانسجامه والأمثلة كثيرة في ما ينشر اليوم من شعر شعبي .
تدوينه
ظل الشعر الشعبي حينا من الدهر لا حافظ له إلاّ صدور الرواة فدخله كثير من النقص والتحريف ولم يدون إلا في القرن الثالث عشر الهجري .
وأول كتاب ضم قصائد من الشعرالنبطي هو (( ديوان قاسم بن ثاني )) الذي جمعه الأمراء (آل ثاني) عام( 1328هـ ) .
ثم تلاهم الأديب (خالد محمد الفرج) في جمع شعر الشاعر الكبير المبدع (عبدالله الفرج) وطبع هذا الديوان في الهند عام( 1339هـ ) , ثم أصدر ( ديوان النبط ) في كتابين ضما أعظم الشعراء .
وفي عام (1371هـ ) ظهر أضخم مؤلف جامع في الشعر الشعبي حتى يومنا هذا على يد الأستاذ (عبدالله خالد الحاتم) وهو (( خيار ما يلتقط من شعر النبط )) في كتابين , وتوالت بعد ذلك الإصدارات في هذاالمجال على يد نخبة من المؤلفين ومنهم :
ـ عبدالله العلي الزامل
ـ الشيخ عبدالله بن خميس
ـ الشيخ سعد بن جنيدل
ـ الشيخ محمد سعيد كمال
ـ الأستاذ منديل الفهيد
ـ الشيخ أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري
ـ الأستاذ طلال السعيد
[ منقول للأفائدة ]